كنتُ وما زلتُ أؤمن أن أخلاق الإنسان لا تُقاس بكثرة أقواله، بل بكيفية تعامله مع من هم دونه علمًا أو مكانة.
وإن أردت أن تختبر صفاء قلب إنسان، فانظر كيف يتعامل مع الأطفال في غياب أهاليهم — هناك، حيث لا رياء ولا تصنّع.
بهذا المعيار، تلمع في ذاكرتي صورة معلمتي الأستاذة حصة بنت محمد الفالح -رحمها الله- ، التي لم تكن معلمة عادية، بل كانت أمًا تربّت على الرفق، وربّت على القيم.
رقيقة الطباع، هادئة الحضور، قليلة الكلام إلا فيما يُنفع. كانت إذا حضرت، سكن المكان، وكأن الهدوء صار لغة تُدرّس.
ومع شقاوة الطفولة، ولعب الصغار، وسلوكياتنا المشاغبة، لم تكن تُقابلنا إلا بابتسامةٍ تُهذبنا دون أن تجرح، وتعلّمنا دون أن تؤنب.
وفي كل نهاية فصل دراسي، كنت أعود للمنزل بشهادة شكر بخط يدها، موقعة باسمها.
كنت أشعر حينها أني متميزة، لأنها آمنت بي، وشجعتني، وغرست في داخلي بذرة ثقة كبرت معي عامًا بعد عام.
تخرجتُ من المرحلة الابتدائية، لكنها لم تغب عن قلبي.
سنوات مضت، ثم شاء الله أن تعود قريبةً من جديد، ولكن هذه المرة كصديقة لوالدتي… فكان لذكرياتي معها حياة ثانية.
واليوم، رحلت أستاذتي، وها أنا أكتب عنها بكل امتنان ووفاء، مرددةً:
رحمكِ الله يا معلمتي، وأجزل لكِ الأجر والمثوبة.
ما زلتُ أحتفظ بمخطوطاتها، بشهاداتها، وبكلماتها التي كتبتها بخط يدها.
وليشهد الزمان بأن هذه المعلمة أدت الأمانة على أكمل وجه، وها نحن – تلاميذها – نسير على ما علمتنا، ولها أجر من علّمنا بعد رحيلها.
لقد خرّجت أجيالًا وأجيالًا، وزرعت في كل قلب بذرة نور، وها هو أثرها ينتقل من جيل إلى آخر.
فالمعلم الحقيقي لا يموت، بل يبقى… ما بقي أثره، ونُقِل من جيلٍ إلى جيل.
قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم
وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ