وجوه الإعجاز في القرآن الكريم كثيرة، ولا يمكن حصرها أو الإحاطة بها، ومن بين هذه الوجوه: “المتشابه اللفظي” على اختلاف أنواعه، الذي يُعدُّ ظاهرةً لغوية تستحقّ التأمل والتدبّر.
وخصّصت “سبق”، في الحلقة الرمضانية “الرابعة عشرة” من “قبسات بلاغية”؛ الحديث عن بعض من بلاغة المتشابه اللفظي في القرآن الكريم “الجزء الثاني”، وتستضيف فيها وبشكلٍ يوميٍ طوال شهر رمضان المبارك، دكتور البلاغة والأدب “زيد بن فرج الخريصي”.
أسماء وضمائر
في البداية يقول “الخريصي”: تأتي الكلمة في كتاب الله مفردةً ومجموعةً، وليس ذلك اعتباطًا؛ إنما لغرض بلاغي يستدعيه السياق، وهذا التنوع في الإفراد أو الجمع لم يأتِ محصورًا بالأسماء الظاهرة فحسب، بل تجاوز ذلك إلى الضمائر.
وأضاف “المختص في البلاغة والأدب”: من الشواهد على التشابه اللفظي في الإفراد والجمع بـ”الاسم الظاهر”، ما جاء في سورة الأعراف في قصة نبي الله صالح، وشعيب، عليهما السلام، مع قومهما؛ ففي قصة صالح، عليه السلام، أفرد الاسم الظاهر “الرسالة”، في قوله الله تعالى: “فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ” “الأعراف: 79″، وفي قصة شعيب، عليه السلام، جمع الاسم الظاهر “رسالات”، في قوله الله تعالى: “فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ۖ فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ” “الأعراف: 93″، والسر في إفراد الاسم الظاهر “رسالة”؛ لأنه في الآية الأولى لم يكن الحديث عن الرسالة السماوية التي جاء بها صالح، عليه السلام، إنما كان المقصود بالرسالة معجزة الناقة التي قتلها قومه، أما في الآية الثانية عندما جاءت رسالة مجموعة “رسالات”؛ لأن المقصود بهذه الرسالات الرسالة السماوية التي جاء بها شعيب، عليه السلام، وما فيها من تشريعات وجزئيات تخصّ قومه؛ لذا ناسب أن يجمع الاسم الظاهر فيقول: رسالات.
آيات وشواهد
وتابع “الخريصي”: من الشواهد ما جاء في قول الله تعالى: “وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۚ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ” “الأنعام: 37″، وقول الله تعالى: “وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ ۖ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ” “العنكبوت: 50″؛ حيث جاء الاسم الظاهر “آية” مفردًا في آية الأنعام، وجاء مجموعًا في آية العنكبوت، والسر في ذلك أن الجواب جاء من جنس الطلب؛ ففي الآية الأولى طلب المشركون من الرسول، عليه الصلاة والسلام، علامة أو معجزة واحدة تدل على صدق رسالته؛ لذا ناسب أن يكون الاسم الظاهر، آية، مفردًا في الطلب وجوابه؛ أي في طلبهم: “لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ”، وفي الجواب الذي جاء من الله، في قول الله تعالى: “قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً”، وجاء الاسم الظاهر، آيات، مجموعًا في الآية الثانية؛ لأن المشركين طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام عدة آيات، فناسب أن يجمع الاسم الظاهر.
جمع وإفراد
وأردف “الخريصي”: ومن الجمع والإفراد في الضمائر: ما جاء في قول الله تعالى: “وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ۖ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا ۚ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ” “الأنعام: 25″، وقول الله تعالى: “وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ۚ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ” “يونس: 42″؛ حيث جاء الفعل “يَسْتَمِعُ” مسندًا إلى المفرد، بينما جاء الفعل “يَسْتَمِعُونَ” مسندًا إلى ضمير الجمع “الواو”، والسر في ذلك يقول الكرماني: “لأن ما في هذه السورة نزل في أبي سفيان، والنّضر بن الحارث، وعتبة، وشيبة، وأميّة، وأبىّ بن خلف، فلم يكثروا كثرة من في يونس؛ ولأن المراد بهم في يونس جميع الكفار، فحمل هاهنا مرة على لفظ “من” فوحّد لقلتهم، ومرة على المعنى فجمع؛ لأنهم وإن قالوا كانوا جماعة، وجمع ما في يونس ليوافق اللفظ المعنى”.